إنها واحدة من أعظم الحوادث وأبعدها أثراً في تاريخ الإسلام والنصرانية، بل كانت كلمة الفصل الحاسمة في طريق الإسلام والنصرانية في العالم القديم، وهي معركة بلاط الشهداء، أو ما تعرف عند المؤرخين الأوروبيين بمعركة «بواتييه» أو «تور»، والتي أبقت النصرانية كدين وأمة في أوروبا حتى الآن([1]).
فتح المسلمون الأندلس سنة 92هـ، وأخذوا في دفع فتوحاتهم حتى إلى ما وراء جبال البرنيه «البرانس» الآن، ففتحوا ولايات فرنسا الجنوبية، وبسطوا نفوذهم على سهل نهر الرون، ولكن الخلافات العصبية القبلية أدت لهزيمة المسلمين في موقعة تولوز سنة 102هـ، وقتل أمير الأندلس فيها «السمح بن مالك» ومعه زهرة جند الأندلس، فارتد المسلمون إلى حدود فرنسا استعداداً لجولة أخرى، ولكن الفوضى الكبيرة التي اجتاحت الأندلس بسبب الصراع القبلي والعنصري بين البربر والعرب من جهة، والعرب فيما بينهم «قيسية ويمانية» من جهة أخرى؛ أعاقت حركة الفتح زهاء عشرة أعوام، حتى تم تعيين القائد العظيم «عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي» والياً على الأندلس سنة 113هـ.
كان «عبد الرحمن الغافقي» جندياً عظيماً، وقائداً محنكاً، وسياسياً ماهراً، ومؤمناً ورعاً، شديد الحب للجهاد في سبيل الله، وتضطرم نفسه برغبة عارمة للانتقام لمصاب المسلمين في تولوز، لذلك أخذ في إعداد العدة لغزو بلاد فرنسا مرة أخرى، وقام بإصلاحات إدارية وتنظيمية بالأندلس أدت لتهدئة الأوضاع، واستقرار الداخل الأندلسي، وفي هذه الفترة المضطربة حاول أحد زعماء البربر الطموحين والطامعين في الحكم واسمه «منوسة» أن ينتهز الفرصة، ويستقل بحكم الولايات الشمالية، ومن أجل هذا الغرض الجامح دخل في حلف مع الكونت «أودو» حاكم إقليم «أكوتين» في جنوب فرنسا.
شعر عبد الرحمن الغافقي بخطورة الأمر فقرر المبادرة بالتحرك قبل استفحال الفتنة، وبالفعل أرسل جيشاً لتأديب «منوسة»، واستطاع هذا الجيش أن يقضي على جيش «منوسة» ويقتله، فشعر حليفه الفرنسي الكونت «أودو» بالخطر القادم نحوه، فتأهب للدفاع عن مملكته، وعندها توجه «عبد الرحمن الغافقي» بكل جيوشه المسلمة من عرب وبربر في أعظم جيش شهدته إسبانيا وفرنسا وذلك في محرم سنة 114هـ، واخترق شمال الأندلس كالإعصار العاتي انقض المسلمون على إقليم «أكوتين» كالسيل الجارف، وحاول «أودو» إيقافهم ولكنه هزم هزيمة فادحة، وتمزق جيشه تماماً، وفر هو ناحية الشمال، وواصل المسلمون فتحهم للجنوب الفرنسي، حتى وصلوا إلى مدينة «صانص» على بعد مئة ميل من العاصمة باريس، أي افتتح المسلمون نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر فقط.
كان ملك الفرنج أو فرنسا وقتها هو «تيودو ريك الرابع»، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحاً قائمة فقط، وكان محافظ القصر الفرنجي واسمه «كارل مارتل» هو الملك الحقيقي المتأثر بكل سلطة، فاجتمع قادة الفرنج معه، وتشاوروا في كيفية التصدي لهذا الاكتساح الإسلامي لبلادهم، وكان «كارل مارتل» من أدهى رجال الفرنج، وأكثرهم حنكة، وكان على عداوة كبيرة مع الكونت «أودو» لذلك تركه فريسة سهلة للمسلمين ولم ينجده، فأشار «كارل مارتل» على قادة الفرنج أن ينتظروا حتى يقدم عليهم المسلمون، وقال لهم بالحرف الواحد: «الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنه كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم بالغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا على الرياسة، ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر».
حشد كارل مارتل جيشاً ضخماً من الفرنسيين والعشائر الجرمانية البربرية الوثنية، والعصابات المرتزقة من كل حدب وصوب، حتى أصبح هذا الجيش أضعاف جيش المسلمين على الرغم من ضخامة جيش المسلمين، وعسكر الفرنج عند سهل «تور» بين فرعي نهر «اللوار»، وواصل المسلمون زحفهم حتى اقتربوا من معسكر الفرنج، فأرسل «عبد الرحمن الغافقي» دورية استطلاعية لاستكشاف استعدادات العدو ولكن هذه الدورية أخطأت في تقدير ضخامة الجيش الفرنجي، فاقتحم عبد الرحمن ومن معه نهر اللوار لملاقاة الأعداء، ففوجئ بضخامة الجيوش الفرنجية، فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتييه، وكان وضع الجيش الإسلامي غير مطمئن بسبب رغبة قبائل البربر في الانسحاب بالغنائم المهولة التي غنموها خلال اجتياح الجنوب الفرنسي، والإرهاق الذي أصابهم من كثرة القتال.
بدأ القتال بين الجيشين في أواخر شعبان على شكل مطاردات جانبـية، ومبارزات فردية حتى يوم 2 رمضان 114هـ - 21 أكتوبر 732م، حيث اندلعت المعركة العامة الشاملة واستمرت دون تقدم فريق على الآخر، حتى بدأ التعب على الفرنج، ولاح النصر في جانب المسلمين، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ استطاع الفرنج أن يفتحوا ثغرة إلى معسكر الغنائم، فارتدت أعداد كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى الخلف لحماية الغنائم، ودب الخلل في صفوف المسلمين، وعبثاً حاول القائد «عبد الرحمن الغافقي» تنظيم الصفوف، وحث الجنود على الثبات والبقاء، وأثناء ذلك يصاب «عبد الرحمن» بسهم قاتل يخر معه شهيداً في أرض المعركة، ويعم الاضطراب والفوضى في الجيش الإسلامي، وانتهز الفرنج الأمر وشددوا الهجوم على المسلمين، وكثر القتل بينهم، ولكنهم صمدوا حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل، وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، ودب اليأس من النصر بينهم، فقرروا الانسحاب نحو أقصى الجنوب الفرنسي، فلما طلع الفجر لم يجد الفرنج المسلمين في معسكراتهم، فلم يتابعوهم خوفاً من الكمين أو الخداع، وعاد كارل مارت والفرنج إلى الشمال.
بعرف الحروب لم يهزم المسلمون في معركة «بلاط الشهداء»، بل ارتدوا دون أن يحققوا النصر، ولكن هذه المعركة أصبحت أسطورة عند المؤرخين النصارى، وأفاضوا عليها هالات من التقديس والبطولة الزائفة، ويجعلون من «كارل مارتل» منقذ النصرانية والأوروبيين من الإسلام والمسلمين، بل اتفق المؤرخون الأوروبيون القدامى والمعاصرون على أنها أهم حدث في تاريخ أوروبا والنصرانية كافة، ونحن نقول: إنه لولا طمع البعض في الغنائم وحرصهم على الدنيا لانتصر المسلمون، وأصبحت أوروبا الآن كلها إسلامية مثل دول الشمال الإفريقي.